27 رمضان المبارك 1394 هجرية – 1353/7/22 هجرية شمسية
(إِنَّ اللهَ یَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَیْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللهَ نِعِمَّا یَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللهَ كَانَ سَمِیعًا بَصِیرًا # یَا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا أَطِیعُوا اللهَ وَأَطِیعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِی الْأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِی شَیْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَ الْیَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَیْرٌ وَ أَحْسَنُ تَأوِیلًا) (النساء/ 58-59)
ذكرنا في الجلسات السابقة المسائل الأساسية التي ترتبط بالولاية ولكن ثمة مسائل أخرى يمكن اعتبارها أيضًا أصلية وأصولية وموجّهة للبحث. سأذكر اثنتين منها في هذه الجلسة وأترك الباقي للجلسة القادمة.
المسألة الأولى: هي من هو الولي الحقيقي في المجتمع الإسلامي؟ ذكرنا في الجلسة الماضية مهمة الولي في هذا المجتمع على الصعيد الداخلي وعلى الصعيد الخارجي. فمَنْ هذا الولي في المنطق القرآني؟ إنه الله سبحانه: (وَاللهُ وَلِیُّ الْمُؤْمِنِینَ) وهذا المنطق القرآني في تعريف الولي ينسجم مع أصل التوحيد وأصل النبوة، فهذه الأصول منسجمة مع بعضها، ولا يجوز أن نستنبط من أي واحد منها مسألة فرعية تتناقض مع بقية الأصول كما يفعل بعض السذج من المسلمين. في القرآن الكريم آيات عديدة تقرر هذا المبدأ وتؤكد أن المؤمنين ليس لهم وليّ إلاّ الله، وأن الله يحكم في كل أمور البشر، وهنا تلزم الإشارة إلى أن الحديث ليس بشأن السلطة التكوينية لربّ العالمين، فمعلوم أن الله هو المهيمن على السماوات والأرض، وهو المدبّر لها بإرادته القاهرة، وإنما الحديث عن التشريع لحياة الإنسانية وتنظيم العلاقات الاجتماعية، وهي ما ينبغي أن تكون مستلهمة من الله تعالى، وأن يكون الحاكم في هذا النظام الإسلامي، وأسميه النظام العُلوي، هو الله وحده دون سواه.
هنا ننتقل إلى مرحلة أخرى، وهي أن حاكمية الله في المجتمع تستوجب أن ينفّذ هذه الحاكمية شخص، أو مجلس يضم مجموعة من الأشخاص يراقب عملية تنفيذ الأحكام والقوانين في المجتمع البشري، وبدون ذلك يختل نظام المجتمع. فَمَن هذا الفرد القائد أو المجموعة القيادية التي تمارس عملية الولاية؟ ثمة آراء مختلفة في هذا الحقل. فمن قائل «إن الـمُلك لمن غلب»، وقيل إنه ينبغي أن ينتمي إلى قبيلة معينة، وقيل إنه من يقبله الناس وقيل غير ذلك.
جواب المدرسة الدينية هو: (إِنَّمَا وَلِیُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ) فالرسول هو الذي يمسك بيده زمام الأمور من قِبل الله. أما حين يرحل النبي من ساحة الحياة فمن الذي يستلم زمام الأمور؟ تشخّصه الآية بالقول: (وَالَّذِینَ آمَنُوا) هذا هو المعيار.. الإيمان الحقيقي لا الظاهري. فرد أثبت طول حياته بعمله أنه مؤمن حقًا. بعد هذا التشخيص يأتي التخصيص من بين المؤمنين.
(الَّذِینَ یُقِیمُونَ الصَّلَاةَ) وإقامة الصلاة غير أداة الصلاة. لأداء الصلاة يكفي فيها تعبير «يُصَلّون»، أما إقامة الصلاة فتعني إحياء روح الصلاة في المجتمع. أن يكون المجتمع مصليًا. والمجتمع الذي تحيى فيه روح الصلاة يتجه نحو محو الجرائم والخيانة والقضاء على سحق القيم الإنسانية، إذ جميع الأعمال فيه تتجه للقربة إلى الله. سبب الخيانات والسرقات والظلم والاعتداءات هو الابتعاد عن ذكر الله. المجتمع الذي تسود فيه روح الصلاة هو ذلك المجتمع الذي يتولى الحكم فيه مِثلُ علي بن طالب صلوات الله عليه القائل: «والله لو أُعطيت الأقاليم السبعة على أن أعصي الله في نملة أسلبها لبّ شعيرة ما فعلت». وأفراد ذلك المجتمع مثل أبي ذر الغفاري الذي تحمّل ما تحمّل من ضرب «ونفي» لكنه لم يرضخ للظلم. ولا ينتهي الأمر بإقامة الصلاة بل أيضًا:
(وَیُؤْتُونَ الزَّكَاةَ) وفيه معنى التقسيم العادل للثروة والإنفاق في سبيل الله. ثم:
(وَهُمْ رَاكِعُونَ) وفي ذلك إشارة إلى حادثة تاريخيةوهي إن سائلًا جاء إلى المسجد وأمير المؤمنين في حال صلاة. وحين وصل إلى الإمام كان عليه السلام في حال ركوع فأهداه خاتمه الخاص. فنزلت الآية.
وقيل إن الآية لا تختص بحادثة تاريخية بل هي عامة، ولكن سياق الجملة العربية يقتضي أن تكون إشارة إلى حادثة خاصة. ثم إن إعطاء الخاتم لم يكن من الزكاة المعروف في الاصطلاح. وهذا يؤكد ما ذكرناه أمس أن الزكاة تعني عامة الإنفاق في سبيل الله. وفي «وهم راكعون» إشارة إلى اهتمام الإمام بالإنفاق، فلم يتأخر عنه لحين انتهاء الصلاة، بل سارع للإنفاق بما يمتلكه من خاتم وفي ذلك دلالة أيضًا على ذوبان الإمام في أداء هذا التكليف.
هذه الآية تشير إلى تعيين أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام وليّ أمر بعد رسول الله عليه أفضل الصلاة والسلام. لكنه تعيينٌ ليس على طريقة أهل البطش والقوة، ليس على طريقة من يفرض ابنه وليَّ عهدٍ بعده ويجبر الناس على قبوله. الله سبحانه يعين الإمام وليًا من بعد رسول الله بهذه المواصفات: الإيمان التام بالله، وإقامة الصلاة، والاهتمام التام بالإنفاق وإيتاء الزكاة. إنه تعيين لخليفة رسول الله وبيان لملاك هذه الخلافة ومناطها وفلسفتها.
الله سبحانه وحده له حقّ الحاكمية، لذلك هو وحده الذي يستطيع أن يمنح حق الحكومة لمن يشاء. ونعلم أن الله سبحانه لا يقرر شيئًا إلاّ لمصلحة الإنسان. فهو الذي يعيّن النبي لهذه المسؤولية، ثم يعيّن الإمام، ومن بعد الإمام يعيّن من تتوفّر فيه معايير وصفات خاصة.
فالله هو الوليّ، ونبيّه وليّ، والأئمة أولياء. إثنا عشر إمامًا تنطبق عليهم مواصفات الوليّ، ومن بعدهم أيضًا من تتوفر فيه المواصفات التي ذكرناها من قبل.
الذي يركز عليه الإسلام هو أن زمام أمور الناس يجب أن لا تقع بيد من يسوق الناس إلى جهنم. لقد شهد التاريخ الإسلامي استيلاء أفراد على السلطة أذاقوا الناس سوء العذاب، وعاثوا في الأرض الفساد. كل هذا حدث في جوٍّ من غياب القيم التي قرّرها الله سبحانه للحاكم في المجتمع الإسلامي. رأينا في التاريخ كم عبث بعض الحكام بأموال المسلمين وأرواحهم. أنفقوا بيت المال على قصورهم ولهوهم وحفلات زواجهم. وتذكر لنا كتب التاريخ ما يندى له الجبين من مشاهد زواج بنات بعض الخلفاء والأمراء في العصر العباسي، مما يشبه الأساطير، في حين كان هناك من لا طمع له في الشبع، ومن يعيش في شظف العيش. كان الخليفة في مناسبات متعددة يوزع الإقطاعات والمجوهرات على حاشيته وأتباعه، وإلى جانب هذا البذخ والترف كان يحيى العلوي في جبال طبرستان قد أعلن الثورة على الظلم والظالمين، ولم يكن يملك هو و زوجه سوى رداء واحد، يلبسه يحيى ليؤدي الصلاة، ثم يعطيه زوجه لتؤدي الصلاة بعده.
واللوم في ذلك لا يتوجه إلى هارون الرشيد ولا إلى حاشية هارون، بل إلى الناس الذين كانوا يرون هذه المآسي ويسكتون.. يتوجه اللوم إلى المسلمين الذين فقدوا ما كانوا يملكونه من إحساس بالمسؤولية ومن درك ووعي في عصر صدر الإسلام. وما حدث ذلك إلاّ بسبب ما عملته السلطة من غسيل دماغ في العالم الإسلامي، وبذلك غيّبت عن المسلمين المعايير التي عينها الله للحاكم الإسلامي.
لقد أشاعوا أن كل من أمسك بزمام الأمور فهو وليّ الأمر ولو كان فاسقًا. بينما مدرسة أهل البيت كانت متمسكة بمواصفات القرآن الكريم لولي الأمر، وكانت تشيع ذلك بين الناس وتقول إن وليّ الأمر قد عيّنه الله بمواصفاته ولا يحق لأحد أن يتولى أمور المسلمين بالقهر والقوّة. لايجوز تولّي الحكم بمنطق العباسيين الذين يرون أن انتسابهم إلى ابن عم النبي يؤهّلهم لذلك !! ولا يجوز تولي الحكم بمنطق المنصور الذي كان يدعي أن الإمام الحسن تنازل عن الخلافة للأمويين ونحن أخذناها منهم بالقوة!!
هذا كله مرفوض بمنطق القرآن وبمنطق السائرين على نهج القرآن من أهل بيت رسول الله والمتمسكين بمدرستهم. فلا يحقّ إذن لأحد كائنًا من كان أن يدعي ولاية أمر المسلمين أو أن يقبل منه ذلك أحد. هذه هي المسألة الأولى.
المسألة الأخرى هي أننا ذكرنا أن الولاية لله. لماذا كانت له سبحانه؟ هذا ينطلق من نظرة الإسلام إلى الكون والحياة. وبموجب هذه النظرة فإن كل شيء في العالم ناشئ من قدرة الله تعالى: (وَلَهُ مَا سَكَنَ فِی اللَّیْلِ وَالنَّهَارِ) جميع ظواهر الخليقة له سبحانه، والحكومة التكوينية على جميع الأشياء تحت تصرفه، من هنا يجب أن تكون الحكومة التشريعية والقانونية تحت تصرفه أيضًا لأنه أعلم بما يصلح للبشرية، وبذلك تكون حركتهم التشريعية في الحياة منسجمة مع طبيعتهم التكوينية.
ولنبدأ بالمرور سريعًا على الآيات:
(إِنَّ اللهَ یَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَیْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللهَ نِعِمَّا یَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللهَ كَانَ سَمِیعًا بَصِیرًا).
الآية الكريمة تتحدث أولًا عن ضرورة ردّ الأمانة إلى أهلها. والأمانة لا تقتصر على ردّ الوديعة المالية، بل أهم أمانة هي أمانة العمل بواجب الطاعة، وهو الميثاق بين الله وبين الناس. وهذا أهمّ مصاديق الأمانة. والآية تمهّد للآية التالية:
(یَا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا أَطِیعُوا اللهَ وَأَطِیعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِی الأَمْرِ مِنكُمْ) والآية تعني أنه لابدّ من وليّ أمر، وحاكم، وحكومة، خلافًا لما تدعي بعض المدارس أن التطور الاجتماعي التاريخي يؤدي في النهاية إلى عدم حاجة المجتمع إلى حكومة. وخلافًا لما ادّعى الخوارج بقولهم: «لا حُكم إلاّ لله» وفي جوابهم قال الإمام علي بن أبي طالب: «كلمة حق يراد بها باطل». نعم، الذي بيده التشريع وزمام الحياة هو الله، لكنكم أيها الخوارج تقولون: «لا إمرة إلاّ لله»! لابد من حاكم ينفّذ ما أراده الله. ويطبق ما أراده الله في المجتمع. ولذلك يقول الإمام: «لابدّ للناسِ من أمير». هذه هي طبيعة البشرية التي تقتضي وجود منفّذ للقانون في المجتمع.
ومن هو وليّ الأمر؟ إن النصّ القرآني، وما عليه مدرسة أهل البيت هو أن وليّ الأمر ما كانت تتوفر فيه المعايير الإلهية، خلافًا لمن ذهب إلى أن من استولى على كرسي الحكم فهو ولي أمر تجب إطاعته.
(فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِی شَیْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْیَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَیْرٌ وَ أَحْسَنُ تَأوِیلًا).
فالرجوع إلى الله والرسول هو خير وأحسن رجوع، وبذلك تحذّر الآية من الرجوع إلى حكام السوء. وبعد ذلك تقول الآية الثالثة:
(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِینَ یَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَیْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ یُرِیدُونَ أَن یَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَن یَكْفُرُوا بِهِ وَیُرِیدُ الشَّیْطَانُ أَن یُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِیدًا).
هؤلاء الذين يدّعون الإيمان، بدل أن يعودوا في قضاياهم إلى أولي الأمر بالمواصفات التي عينها الله، يتحاكمون إلى الطاغوت ليأخذوا منه أحكام حياتهم، بينما أُمروا أن ينكروا الطاغوت ويكفروا به. وهذا هو من عمل الشيطان الذي يريد أن يبعدهم عن جادة الصواب. ومن المحتمل أن يكون الشيطان هو الطاغوت نفسه لا شيء آخر. هذا الشيطان أو الطاغوت يريد أن يلقيهم في وديان التيه. ويبعدهم عمّا يحقق مصالحهم الحقيقية ابتعادًا يصعب معه العودة إلى جادة الصواب.
والآية التالية تقرر موضوعًا ذكرناه من قبل وهو أن ولاية الله تنطلق من نظرة الإسلام إلى الكون والحياة، وبموجبها يعود كل شيء إلى الله، فهو السميع العليم بما يحتاجه البشر في تشريعهم:
(وَلَهُ مَا سَكَنَ فِی اللَّیْلِ وَالنَّهَارِ وَهُوَ السَّمِیعُ الْعَلِیمُ # قُلْ أَغَیْرَ اللهِ أَتَّخِذُ وَلِیًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ یُطْعِمُ وَلَا یُطْعَمُ قُلْ إِنِّی أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكینَ).
والحمد لله رب العالمين