24 رمضان المبارك 1394 هجرية – 1353/7/19 هجرية شمسية
(یَا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّی وَ عَدُوَّكُمْ أَوْلِیَاءَ تُلْقُونَ إِلَیْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُم مِّنَ الْحَقِّ یُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَ إِیَّاكُمْ أَن تُؤْمِنُوا بِاللهِ رَبِّكُمْ إِن كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِی سَبِیلِی وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِی تُسِرُّونَ إِلَیْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَیْتُمْ وَمَا أَعْلَنتُمْ وَمَن یَفْعَلْهُ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِیلِ) (الممتحنة/ 1)
موضوعنا اليوم يدور حول «الولاية» وما أطرحه اليوم إنما يقوم على أساس القرآن، وقليلًا ما نرى تناول هذا الموضوع بهذه الصورة.
كلمة الولاية مطروقة في أذهان شيعة أهل البيت، ومقرونة بالقداسة والاحترام، ويدعون الله أن يعيشوا على الولاية ويموتون عليها. الحديث عن الولاية ينجرّ عادة إلى ولاية الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه الصلاة والسلام)، لكني أريد الآن أن أتناول المراحل السابقة على ذلك، أريد أن أستلّ مفاهيم الولاية من القرآن الكريم، لأوضح عظمة هذا المفهوم وسموّه، ولأبيّن ما يصيب المجتمع إن خلا من الولاية.
في ظل هذا التناول ستفهمون لماذا قال الإمام الباقر(ع): «لو أن رجلًا قام ليله وصام نهاره وتصدّق بجميع ماله وحجّ جميع دهره، ولم يعرف ولاية وليّ الله فيواليه، ويكون جميعُ أعماله بدلالته إليه، ما كان له على الله عزوجل حق في ثوابه ولا كان من أهل الإيمان».
مسألة الولاية تتبع مسألة النبوة، وليست منفصلة عنها، بل هي في الواقع بالنسبة إلى مسألة النبوة تتمّتها وذيلُها والخاتمة لها، وسنرى أن النبوة ستكون ناقصة بدون الولاية. لذلك من الضروري أن نعيد باختصار ما ذكرناه بشأن النبوة، ومنها ننطلق إلى حديثنا عن الولاية.
ولابدّ أن أذكر بداية أن طرح هذا الموضوع فيه كثير من الصعوبة. إذ الحديث عن الولاية وفق ماجاء في القرآن والسنة يواجه مشكلتين: الأولى أن يختلط هذا الحديث بما يدور في الأذهان بشأن هذا الموضوع، والثاني أن يكون هناك شعور بالاستغراب من ذلك. ولكني أستعين بالله وأطلب منكم المتابعة بدقة.
رسول الله يأتي إلى المجتمع من أجل تكامل الإنسان، ولأن يتخلّق الإنسان بأخلاق الله، وليتمّم مكارم الأخلاق. «بُعثْتُ لأُتمّم مكارم الأخلاق» وما هو سبيله إلى تحقيق هذا الهدف؟ إنه يوفّر الجوّ اللازم لصناعة الإنسان، يؤسّس معمل صناعة الإنسان. وما هو هذا المعمل؟ إنه المجتمع الإسلامي الذي يسوده نظام إسلامي. وهذه هي المسألة الأساسية التي يجب أن تُفهم بدقّة. عمل النبي في التغيير لا يقتصر على العمل الفردي والتوعية الفردية، بل يقيم المجتمع الصالح ليدخل الناس في دين الله أفواجًا.
وما هي طبيعة المجتمع الإسلامي؟ ليس هذا موضوع بحثنا، ولكن نشير باختصار إلى أنه المجتمع الذي تسود فيه حاكمية الله والقوانين الإلهية. وإذا مثلناه بمخروط، فإن رأس المخروط هو الله، وأدنى منه تقع البشرية جمعاء. في المجتمع الإسلامي نظام العلاقات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والحقوقية يقف وراءها الدين الإلهي تعيينًا وتنفيذًا وضمانًا.
المثال على مثل هذا المجتمع هو مجتمع المدينة المنورة الذي أقامه الرسول الأكرم(ص). كان الرسول والفئة المؤمنة برسالته مقيمين في مكة، وحين تعرضوا للضغوط كان بإمكانهم أن يتفرّقوا في البلاد، ويمارسوا عبادتهم هناك. لكن هذا لم يكن يوفّر هدف الرسالة. انتقلوا إلى المدينة ليقيموا فيها المجتمع الإسلامي، حيث الحاكمية لله، وينوب النبي عن الله في هذه الحاكمية تقريرًا وتنفيذًا.
في هذا المجتمع الإلهي كل أمور المجتمع هي من الله، وتجري داخل بيت الله، ابتداء من الصلاة والتعليم والتزكية وتجييش الجيوش للجهاد. كان الرسول(ص) يعقد الراية لأسامة بن زيد في المسجد، ثم يقول للمجاهدين: «انطلقوا باسم الله»، هناك يشحذ عزائمهم ويبين لهم خارطة حركتهم، وفي المسجد كان القضاء بين الناس، وإدارة شؤون المجتمع واقتصاده، وجمع الزكوات. وبعبارة موجزة كانت في المسجد تدار أمور الدنيا والآخرة بقيادة النبي. هذا هو المجتمع الإسلامي. وفي هذا المجتمع يتوفر لمن يريد أن يكون صالحًا ما يُيسّر له صلاحَه، ولمن لا يريد ذلك لا يستطيع إلاّ أن يساير الصالحين في حركته.
في المجتمع غير الإسلامي لا يتوفر لمن يريد الصلاح ما يحقق إرادته. يريد أن يحافظ على دينه، يريد أن لا يتعامل بالربا، تريد المرأة أن تحافظ على كرامة أنوثتها، ولكن ذلك غير ممكن بالشكل المطلوب. في مثل هذا المجتمع هناك الكثير من العوامل والدوافع التي تبعد الإنسان عن ذكر الله. وفي المجتمع الإسلامي خلاف ذلك. وفرةٌ من العوامل تذكّر الإنسان بالله.. من المسجد إلى السوق إلى الإعلام إلى الحكومة إلى الأسرة. كل تلك تجعل ذكر الله سبحانه حيًا في النفس. وتدفع الإنسان ليقترب من الله ويبتعد عن كل ما ينسي الله. لو أن الحياة الرسالية المبدئية التي كانت قائمة في زمن رسول الله قد استمرت بعد التحاق الرسول بالرفيق الأعلى لتحول جلّ المنافقين بعد نصف قرن إلى مؤمنين حقيقيين. لأن تلك الحياة تطهّر الناس من الشوائب والنفاق وتملأ قلوبهم بالإيمان. هذه طبيعة المجتمع الإسلامي. ولهذا بُعث الأنبياء.
نعود إلى بحثنا في موضوع الولاية. من الطبيعي أن النبي في بداية عمله يتوجه إلى بناء الكتلة المؤمنة التي تستطيع أن تحمل أعباء الدعوة، وتأخذ على عاتقها مسؤولية إدارة المجتمع الإسلامي المرتقب، إذ إن النبي يمارس أعمال البناء عن طريق العوامل الطبيعية. إنه بحاجة إلى جماعة مؤمنة إيمانًا راسخًا بالرسالة، ومتحدة وعلى قلب واحد، ومنشدة إلى الهدف الكبير، ومتحركة نحو ذلك الهدف بخطى ثابتة، ومتربية وفق هدي القرآن في الدعوة (اُدْعُ إِلِى سَبِیلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ)، ولا تأخذها في الله لومة لائم.
وهذه الجماعة الأولى تعيش في وسط المجتمع الجاهلي. ولذلك لابدّ من توفّر كل العوامل اللازمة للـمـحافظة على هذه الجماعة من الذوبان والتصدّع والتأثر بثقافة المجتمع الجاهلي. لابدّ أن تكون مترابطة منضبطة انضباطًا شديدًا، إذ إنها أقلية أمام أكثرية، والأقلية قد تتصدع شخصيتها وهويتها أمام الأكثرية، وقد تهضمها الأكثرية وتبيدها. ولذلك لابدّ أن يشدّ بعضها أزر بعض، مَثَلها كمثل جماعة تريد أن تتسلق جبلًا لتصل إلى قمته. يقال لهذه الجماعة تماسكوا وشدّوا أحزمتكم مع بعضكم، وخففوا أمتعتكم، وبهذا الشكل إذا زلّت قدم أحدهم يستطيع الآخرون أن يمسكوا به كي يواصل الطريق. هذا هو حال الجماعة الأولى من المؤمنين. يشكلون مع بعضهم جبهة متراصة، يأخذ بعضهم بيد البعض الآخر. وهل لهذه الحالة اسم في القرآن والحديث؟ نعم إنه الولاية… الولاية.
لم نصل بعد إلى ولاية أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) وأن هذه الولاية حصني كما ورد في الأثر. ولا نزال في المصطلح القرآني. فالولاية في هذا المصطلح تعني ارتباط مجموعة من الأفراد في جبهة واحدة وفي فكر واحد، وضمن تيار واحد يتجه نحو هدف واحد، ويسعون معًا لتحقيق هذا الهدف، ويحصّنون أنفسهم كي لا يذوبوا في الجبهة المعارضة المعادية. وبذلك يؤسس النبي مجتمعًا ذا خصائص مختلفة تمامًا عن خصائص المجتمع الجاهلي السائد، ومتحصنًا تمامًا عن الانحياز إلى التيارات الأخرى في ذلك المجتمع، ومجهزًا تجهيزًا كاملًا بجميع ما يحافظ على وحدته وتلاحمه وبما يبعده عن الخلاف والتفرّق، وهذه هي الولاية التي تضمن وصول الجماعة إلى أهدافها المرسومة، وبدونها لا يمكن تحقيق ذلك.
ثم بعد أن تتسع هذه الجماعة، وتتشكل الأمة الإسلامية في عصور تالية، تبقى مسألة الولاية لها مكانتها في المجتمع. فالأمة تعرّضت في عصور تالية إلى سيطرة الملك العضوض، وتعرضت الجماعة الملتزمة إلى الاضطهاد والسجن والتشريد، وكان العامل الذي حصّن هذه الجماعة الملتزمة من السقوط والهزيمة والتراجع هو عامل الولاية حول محور القيادة التي واصلت رسالة رسول الله في المجتمع، أعني أئمة آل بيت رسول الله (عليهم السلام). فقد بقي الرساليون مثل نهر زلال يجري في المجتمع الذي ساده الكدر ولوثة الفساد وما شاع من انحراف أيام خلفاء بني أمية وبني العباس.
هذا الذي ذكرناه هو بُعد من أبعاد الولاية إنه الالتحام، وهو جانب من جوانب هذا الموضوع. وسنتعرض للأبعاد الأخرى في الجلسات القادمة إن شاء الله.
سنتطرق في الجلسة القادمة إلى ولاية وليّ الله، ما معنى ولاية وليّ الله؟ ما معنى ولاية أمير المؤمنين علي؟ ما معنى ولاية الإمام الصادق؟ قد يخيّل للبعض أن ولاية الأئمة هي فقط حبّ هؤلاء الأئمة، وهل يوجد في العالم من يعرف هذه الصفوة المقدّسة ولا يحبّها ؟! كل من يعرفهم يحبهم، حتى الذين حاربوهم في عصرهم كانوا على معرفة بهم، ولم يكونوا لهم أعداء، بل كانوا يحبونهم، لكنهم حاربوهم لأطماع دنيوية. حين بلغ خبر وفاة الإمام الصادق إلى الخليفة العباسي المنصور بكى، ولم يكن يتظاهر بالبكاء، إذ لم يكن هناك داع لهذا التظاهر، لأنه بكى أمام خَدَمه وأمام الربيع حاجبه. لقد تألم حقيقة لوفاة الإمام الصادق. ولكن من الذي سمّ الإمام وقتله، لقد دُسّ إليه السمّ بأمر المنصور. حين وصله الخبر اهتزّ وتأثّر. هل يمكن أن نعتبر أن المنصور كانت له ولاية؟! وهكذا غيره من الخلفاء الذين كانوا يعرفون عظمة أئمة آل البيت، ويكنّون إليهم الحبّ والاحترام، غير أن هؤلاء لم يكونوا من الموالين لهم. الولاية أمر أكبر من مجرّد الحبّ. إذا فهمنا معنى الولاية عندئذ يجب أن نرجع إلى أنفسنا ونرى هل نحن من الموالين حقًا؟! وسأبين معنى ولاية أئمة الهدى (عليهم السلام) وكيف يمكن أن نعتبرهم أولياءنا وكيف نكون من الموالين لهم.
جرت العادة في عيد الغدير أن يتصافح أتباع مدرسة أهل البيت ويردّدون المأثور المعروف «الحمد لله الذي جعلنا من المتمسكين بولاية علي بن أبي طالب (عليه السلام)» وأنا أقول لإخواننا: أخشى أن تكون العبارة كاذبة. قولوا: «اللهم اجعلنا من المتمسكين بولاية علي بن أبي طالب (عليه السلام)».
أعتقد أننا نستطيع أن نسمي سورة الممتحنة بسورة الولاية بالمعنى الذي ذكرناه. وسأمرّ على بعض آياتها.
(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِیمِ # یَا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّی وَ عَدُوَّكُمْ أَوْلِیَاءَ) أي: احذروا أن يأخذوا مكانهم في قلوبكم وأن تعتبروهم بأنهم من جبهتكم ومن صفوفكم. بل انظروا اليهم باعتبارهم يناصبون لكم العداء ويعارضونكم.
(تُلْقُونَ إِلَیْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُم مِّنَ الْحَقِّ) لا يجوز أن تميل إليهم قلوبكم فتبعثوا لهم رسائل مودّة، بينما هم كافرون بما أنزل الله إليكم من الحقّ.
(یُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِیَّاكُمْ أَن تُؤْمِنُوا بِاللهِ رَبِّكُمْ) هؤلاء بسبب إيمانكم بالله وبرسوله يخرجون رسول الله ويخرجونكم من دياركم، فلا تتخذوهم أولياء.
(إِن كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِی سَبِیلِی وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِی) إذا كنتم صادقين في جهادكم وفي ابتغاء مرضاة الله، فلا توالوا الأعداء. طبعًا الآيات التالية تذكر ذلك النوع من الكافرين الذين تجب مقاطعتهم، فالأمر بالمقاطعة ليس عامًا بشأن كل الكافرين.
(تُسِرُّونَ إِلَیْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَیْتُمْ وَمَا أَعْلَنتُمْ وَمَن یَفْعَلْهُ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِیلِ) تبعثون إليهم برسائل المودة سرًا، والله يعلم ما تخفون وما تعلنون. والذي يوالي الأعداء سرًا فقد انحرف عن جادة الصواب.
والآيات نزلت في حاطب بن أبي بلتعة، وهو صحابي أبدى ضعفًا في إيمانه حين أرسل إلى قريش سرًا رسالة يُعلمهم فيها أن الرسول جهّز إليهم جيشًا. أراد الرجل وهو في صفوف المسلمين أن تكون له أيضًا مكانة عند القرشيين كي يحموا أسرته في مكة. كتب الرسالة وأعطاها لامرأة لقاء أجر كي توصلها إلى زعماء قريش. علم الرسول بذلك بوحي من الله، فأرسل عليًا ومعه آخر، فلحقا بالمرأة وهي متجهة إلى مكة. هدّداها، فاضطرت إلى تسليم الرسالة.
ثم دعا رسول الله حاطبًا فقال له: «يا حاطب ما حملك على هذا؟» فقال: يا رسول الله أما والله إني لمؤمن بالله وبرسوله ما غيّرت ولا بدّلت، ولي بين قريش ولد وأهل فصانعتهم عليه. أي حاولت أن أكسب حمايتهم. فعفا عنه الرسول.
ثم توضح الآية لحاطب وأمثال حاطب سبب ضرورة مقاطعة الكفار.
(إِن یَثْقَفُوكُمْ یَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَ یَبْسُطُوا إِلَیْكُمْ أَیْدِیَهُمْ وَ أَلْسِنَتَهُم بِالسُّوءِ وَ وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ).
لا تظنوا أنكم لو ساعدتموهم فإنهم سيردّون إليكم الجميل، كلًا بل سوف يفرضون عليكم سيطرتهم، ويعتدون عليكم بأيديهم وألسنتهم، وسوف لا يتركونكم أحرارًا في إيمانكم، إذ يودّون أن تتخلّوا عن دينكم وتصبحوا كافرين.
ثم تخاطب الآية حاطب بن أبي بلتعة وأمثاله على مرّ التاريخ وتقول:
(لَن تَنفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَ لَا أَوْلَادُكُمْ یَوْمَ الْقِیَامَةِ یَفْصِلُ بَیْنَكُمْ وَ اللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِیرٌ) إنه تأنيب للذين يوالون الكافرين من أجل منفعة للأرحام والأولاد، من أجل أن يحصل هؤلاء الأقارب على منصب وعلى امتياز دنيوي. ترى كم يستطيع هؤلاء الذين توالون الكافرين من أجلهم أن ينفعوكم. هؤلاء سوف ينفصلون عنكم يوم القيامة ولا يُجْدونكم نفعًا. فذلك اليوم هو (یَوْمَ یَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِیهِ # وَأُمِّهِ وَأَبِیهِ # وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِیهِ) ففي ذلك اليوم كل امرئ مشغول بنفسه (لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ یَوْمَئِذٍ شَأْنٌ یُغْنِیهِ) هذا الابن الذي تضحّي بقيمك من أجله اليوم سوف يفرّ منك يوم القيامة، هذا الذي ضحّيت من أجله بدنياك وآخرتك سوف لا ينعفك فتيلا يوم القيامة.
(قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسوَةٌ حَسَنَةٌ فِی إِبْرَاهِیمَ وَ الَّذِینَ مَعَهُ) هذه الآية تبلغ الذورة في خطابها للمؤمنين. إذ تقول لهم إن إبراهيم والمؤمنين معه هم قدوة لكم فاعملوا ما عملوه. وماذا عملوا؟
(إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَاءُ مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَ بَدَا بَیْنَنَا وَ بَیْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَ الْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللهِ وَحْدَهُ).
عدم البراءة من المشركين يلوّث طُهر البشرية ونقاء فطرتها، فالبراءة هي من أجل سموّ الحركة الإنسانية.
والسائرون على طريق إبراهيم فعلوا مثل ذلك على مرّ التاريخ. يحيى بن أم الطويل وهو من أصحاب الإمام السجاد كان يأتي إلى المسجد في مدينة رسول الله فيتلو هذه الآية الكريمة، ليذكّر الحاضرين بمفهوم الولاية. فالولاية في زمن إبراهيم هي نفسها الولاية في عصر الإمام السجاد علي بن الحسين. وهؤلاء المخاطَبون كانوا على معرفة بآل بيت رسول الله، لكنهم كانوا مهزومين بسبب إرهاب السلطة الأموية. يحيى هذا الذي كان يذكّر الناس بأسوة إبراهيم والذين معه واجه إرهاب الحجاج بن يوسف، فقطع يده ورجله، لكن لسانه ظل ناطقًا. فأمر بقطع لسانه وارتقى إلى الرفيق الأعلى. لكنه ترك آثاره فيما بعده حين انتشر مفهوم الولاية أكثر بعد الإمام السجاد.
والحمد لله رب العالمين.