الثلاثاء 14 رمضان المبارك 1394 هجرية – 1353/7/9 هجرية شمسية
(الَّذِینَ اسْتَجَابُوا لِله وَالرَّسُولِ مِن بَعْدِ مَآ أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِینَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَواْ أَجْرٌ عَظِیمٌ # الَّذِینَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِیمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الوَكِیلُ) (آل عمران/ 172-173)
بداية نذكر أن التوحيد من الوحدة والتوحيد على وزن تفعيل يعني جعل المتفرقات وحدة واحدة.. جعل الأرباب المتفرقين ربًا واحدًا، جعل المجتمع غير التوحيدي توحيديًا، أي على قلب واحد، وفي اتجاه هدف واحد، وإيمان واحد، ومشروع عمل واحد. من هنا فإن التوحيد مشروع عظيم وضخم يدخل حياة الإنسان فيؤثر في مجالاته الاقتصادية بإزالة الفقر أو تعديل الثروة، ويدخل في المجال الاجتماعي، فينتج أخلاقية خاصة في التعامل، ويدخل في مجال النظرة إلى الكون والحياة فيجعلها إلهية، ويدخل في دائرة النفس فيخلق منها نفسًا ذات خصائص سامية، مثل التخلص من ضيق النظر، ومن الشعور بالضعف والهزيمة، فلا يرى صاحبها متطلباته محدودة في الأمور المادية، ولا ينشدّ إلى الصغائر، ولا يرى هذه الدنيا هي نهاية الحياة، بل يؤمن بحياة أخرى خالدة، ومن هنا يرى الموت بداية لحياة أخرى، وهذه الرؤية لها الأثر الكبير على حياة الإنسان وسلوكه وتعامله.
إن استعراض مدرسة التوحيد وأبعادها ونتائجها له فائدتان:
الأولى أن نعرف معنى التوحيد وعطاءه في المجالات النفسية والروحية، وبذلك نردّ على أولئك الذين يزعمون أن الدين عامل تخدير الشعوب.
والثانية: أن نفهم مدى قربنا من التوحيد، هل نحن موحّدون أم لا، أن نفهم هل إننا موحدون حقًا كما أراد الله أم إن التوحيد عندنا لا يعدو أن يكون لقلقة لسان، أن نفهم هل إنّ ما قدموه لنا باسم التوحيد هو توحيد حقيقي أم إنه نسخة ممسوخة من التوحيد الإلهي الحقيقي.
ونقف عند إحدى الخصائص النفسية للتوحيد وهي اقتلاع جذور الخوف من غير الله سبحانه: (فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِینَ) فالمؤمن الموحّد العارف بقدرة الله تعالى لا يساوره خوف.
حين أتأمل في حياة البشرية قديمها وحديثها أرى أن الخوف عامل ضياع دنيا الناس وآخرتهم. الخوف من الفقر يؤدي إلى شحّ النفس وعدم الإنفاق، الخوف من انتهاء أيام العمر والطمع في البقاء لأيام أكثر قد يؤدي إلى فناء حياة كثيرين، وإلى شقاء الحياة البشرية. حين نطالع المآسي والجرائم في حياة البشر، حين ندرس سبب قلة أنصار الحق، وإعراض الناس عن الحقّ حتى بعد أن عرفوه، نرى أن جذور كل ذلك تكمن غالبًا في الخوف.
لقد واجهت المسيرة الإسلامية في تاريخها انحرافات كان وراءها الابتعاد عن الموقف الرسالي بسبب عامل الخوف. كان المسلمون في القرن الأول على علم بشخصية علي بن أبي طالب(ع) وبشخصية معاوية بن أبي سفيان. فما الذي ألجأ من لجأ إلى معاوية ليحارب عليًا؟ إنه الخوف. من الذي ألجأ جماعة من الناس ليكونوا متملّقين لسلطان بني أمية وبني مروان؟ إنه الخوف.
هذا الخوف شمل من كان عارفًا بطبيعة الاختلاف بين علي و معاوية، لكنه عزف عن مبايعة علي، بحجة انبهام الموقف وغموض طبيعة هذا الاختلاف. لكنّ هذا النفر رغم أن مرّت أمام عينيه جرائم يزيد والمروانيين بعده، وشاهد جرائم الحجاج بن يوسف راح يستأذن الحجاج ليبايعه مع المبايعين في المدينة. فجاءه في حالة ذلّ وخضوع، لكنّ الحجاج إمعانًا في إذلال هذا المبايع الذليل، لم يمدّ له يده بحجة أنه مشغول بالكتابة، فمدّ له رجله ليتقبل البيعة. هذا كلّه بسبب الخوف من سطوة الحجاج، والخوف على الحياة الفانية.
لم يضع يده في يد علي ليبايعه عملًا بالاحتياط حسب ادعائه، لكنه وضع يده على رِجل الحجاج ليبايعه، هكذا هو مصير الإنسان الذي يخشى الناس ولا يخشى الله. إنه الذلّ.. ذلّ الخروج من طاعة الله والوقوع في الخوف من كل شيء سوى الخوف من ربّ السماوات والأرض.
ولذلك ورد في المأثور عن الإمام علي بن الحسين السجاد قوله: «اللهم عمّرني ما كان عمري بذلة في طاعتك فإن كان عمري مرتعًا للشيطان فاقبضني إليك».
بالمناسبة أدعو أن تنظروا إلى المأثور من الدعاء بنظرة متعمّقة متفهّمة، وأن لا تستهينوا بعظمة هذا المأثور وعطاءه الإنساني والتربوي.
أمعنوا النظر في هذا الدعاء، إنه يوجّه الإنسان ليقوّم عمره على أساس طاعة الله. ففي هذه الطاعة تكون للعمر قيمة. أما إذا كان مرتعًا للشيطان فلا فائدة فيه. والشيطان ــ كما ذكرنا ــ قوّة شرّيرة تريد أن تدفع الإنسان والبشرية إلى الانحراف والرذيلة والموبقات. لا فائدة من عمري إذا كان وسيلة لاستفادة الشيطان. لا فائدة منه إذا استثمره أعداء جبهة الله، وإذا استغله هؤلاء الأعداء لمصالحهم واتخذوني حربة وآلة لجرائمهم، لا فائدة من عمري إذا نفذ الشيطان من ثغرات جهلي وغروري وتكبري «فإن كان عمري مرتعًا للشيطان فاقبضني إليك».
وهذا الخوف الذي دفع بذلك النفر أن يبايع الحجاج تكرر في الموقف من الحسين بن علي(ع) في ثورته على يزيد. رغم وضوح الموقف في هذه المواجهة.. لكن الخوف فعل فعله.
وما أجمل ما قاله سعدي الشيرازي ما ترجمته:
«الموحّد هو ذاك الذي إذا أغرقته بالذهب أو سلّطت المهنّد على رأسه. فإنه لا يعقد الأمل على أحد، ولا يخاف من أحد، هذا هو معنى التوحيد ولا غير».
حقًا، إن الموحّد لا ينخدع بالمال، والانخداع بالمال هو بالمآل خوف من الفقر. ولا يخاف السيف المسلط على رأسه، بل يطوي طريقه إلى الله سبحانه بثبات ويقين وطمأنينة نفس.
ولنعد إلى الآية الكريمة 173 من سورة آل عمران.
هذه الآية الكريمة لها مقدمات وأكتفي بمقدمة من الآية السابقة لها:
(الَّذِینَ اسْتَجَابُوا لِله وَالرَّسُولِ مِن بَعْدِ مَآ أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِینَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَواْ أَجْرٌ عَظِیمٌ). في هذه الآية ذكرٌ للذين استجابوا لنداء الله ورسوله. هذه الاستجابة كانت عملية وكانت أيضًا في أشدّ الظروف: (مِن بَعْدِ مَآ أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ) بعد أن تحملوا ما تحملوا من جروح في معركة أحد. ففي هذه المعركة تخلّى مَنْ تخلّى وثبت مَن ثبت رغم ما تحملوا من جروح، ومنهم أمير المؤمنين علي(ع)، إذ تكبّد في تلك المعركة ما يزيد عن سبعين جرحًا، ولكنه أقبل على رسول الله(ص)، واستجاب لله والرسول.
ونصل إلى الآية المقصودة في بحثنا: (الَّذِینَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ). وقبل أن نستعرض خطاب هذه الآية الكريمة نشير إلى ضرورة فهم القصد الذي تريد الآية تبيينه لنا، لا أن نحصر أنفسنا في سبب النزول، المهم في الآية هو الفكرة التي تريد أن تقدمها لنا ضمن قصة أو حديث عن واقعة.
ربّما أورد القرآن قصة ليركز في فقرة منها على مبدأ قرآني. على سبيل المثال يورد القرآن الكريم قصة ابن نوح في حادثة الطوفان. إذ ركب الفُلك ومعه أهله والمؤمنون، وأخذ الطوفان المعاندين والرافضين لدعوة النبي. ابن نوح كان من الرافضين للدعوة، فلم يركب معهم. وطلب نوح من ابنه أن يركب معهم انطلاقًا من عاطفةِ الأبوّه، وحرصِ الوالد على ابنه. لكن الولد أبى وقال: (سَآوِی إِلَى جَبَلٍ یَعْصِمُنِی مِنَ الْمَاء) وبدافع من عاطفة الأبوّة قال نوح (رَبِّ إِنَّ ابْنِی مِنْ أَهْلِی) ويأتي جواب ربّ العالمين ليقرر مبدأ إلهيًا عامًا: (قَالَ یَا نُوحُ إِنَّهُ لَیْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَیْرُ صَالِحٍ).
قصة نوح لها دلالات كبيرة، لكني أشير إلى مبدأ هام يقرّره هذا المقطع من الآية: «إنه ليس من أهلك». الارتباط الرسالي بين الأفراد هو الأصل. رُبّ شقيقين واحد في جبهة الإيمان وآخر في جبهة الكفر، فإنهما لا ينتميان إلى أسرة واحدة، وربّ والد وولد يقفان في جبهتين مضادتين، فإنهما ليسا من أسرة واحدة، وليس بينهما قرابة.
القرابة في النسب هي في نظر القرآن تأتي متأخرة عن القرابة الإيمانية.. هذا مبدأ إسلامي.
وفي المأثور نرى تأكيدًا على هذا المفهوم: «المؤمن أخو المؤمن لأبيه وأمّه» بين المؤمنين أخوّة ولو كان بينها بُعدَ المشرق والمغرب، لأنهما في جبهة إيمانية واحدة.
نعود إلى الآية الكريمة:
(الَّذِینَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ) هؤلاء المنعّمون بالأجر العظيم يواجهون جمعًا من الناس الحريصين على مصلحة أولئك المنعّمين فيقولون لهم: إن الناس قد اجتمعوا ليتآمروا عليكم، فاخشوهم. لكن هؤلاء بدل أن يتزعزعوا ويتراجعوا عن مواقفهم يزداد إيمانهم: (فَزَادَهُمْ إِیمَانًا وَ قَالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَ نِعْمَ الوَكِیلُ) إنها لفتة عظيمة من القرآن أن يرى التآمر على المؤمنين يزيدهم إيمانًا، وأن يقولوا في هذه المواقف التي يتكالب فيها الأعداء: (حَسْبُنَا اللهُ وَ نِعْمَ الوَكِیلُ).
يكفينا الله سبحانه.. يكفينا بأن يمدّنا بما يساعدنا على المواجهة، يكفينا أن يوجّه قوى الطبيعة لمسايرتنا لأننا على حق، يكفينا أن نكسب رضاه سبحانه ولو لم نحقق ما نريده في هذه الدنيا.. كل هذه المعاني صحيحة من قولهم: (حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الوَكِیلُ).
(فَانقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللهِ وَفَضْلٍ لَّمْ یَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضوَانَ اللهِ وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَظِیمٍ) هؤلاء عادوا بنعمة من الله وفضل منه سبحانه، سواء عادوا بالنصر سالمين أو جرحى، أو عادوا وهم يحملون وسام الشهادة، في كل هذه الأحوال هم مشمولون بنعمة من الله وفضل، إنه الفضل الذي لا تشوبه شائبة سوء.
(إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّیْطَانُ یُخَوِّفُ أَوْلِیَاءَهُ) هؤلاء الذين يثيرون الخوف في صفوف المؤمنين ليسوا سوى شياطين. الشيطان يخوّف أتباعه وأولياءه بمؤامرات المنافقين وكيد الكافرين ودسائس المعاندين. ولا يتأثر بهذا التخويف سوى من ينصاع لنداء الشيطان، وإذا كان الله مع الجماعة فَمَنْ عليهم؟! (فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِینَ)
(وَلَا یَحْزُنكَ الَّذِینَ یُسَارِعُونَ فِی الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَن یَضُرُّوا اللهَ شَیْئًا) لا تحزن يا رسول الله على هؤلاء الذين يتسابقون في الالتحاق بجبهة الكفر، فهؤلاء لا يضرون الله بل يضرون أنفسهم في تركهم لحظهم في الآخرة وفي ما يلحق بهم من عذاب أخروي (یُرِیدُ اللهُ أَلَّا یَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِی الآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِیمٌ) المؤمنون لا يخافون إرجاف المرجفين، ولا يحزنون لمشاهدة إسراع المسرعين نحو جبهة الكفر. بل يقفون ثابتين مستبشرين بنصر الله ورضاه.
والحمد لله ربّ العالمين.