بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله ومن اتبع هداه.
بلورة المشروع الإسلامي بصورة مدرسة اجتماعية ذات مبادئ منسجمة ومتناسقة، وذات رؤية للحياة الاجتماعية البشرية، من ألحّ ضرورات الفكر الديني.
أغلب الدراسات الإسلامية المطروحة على الساحة تفتقد إلى هاتين الخاصيتين الهامتين. من هنا فإن الباحثين والدارسين الساعين إلى مقارنة الإسلام بالمدارس الاجتماعية الراهنة لم يستطيعوا أن يحققوا النتيجة المرجوّة، أي تعذّر عليهم أن يقدّموا الإسلام باعتباره مشروعًا متماسكًا منسجمًا ويقارنوه بالمدارس القائمة.
إضافة إلى ما سبق، فإن ما قدّموه لا يتجاوز أن يكون معرفة ذهنية، لأن أبحاثهم بصورة عامة تدور حول قضايا هي بمعزل عن العطاء العملي وخاصة الاجتماعي، وبذلك لم ينتجوا نظرية إسلامية واضحة بشأن الحياة الاجتماعية، وخاصة ما يتعلق بصورة المجتمع المطلوب.
وثمة ملاحظة هامة أخرى هي إن القرآن الكريم ــ وهو الوثيقة القطعية في الإسلام ــ لم يكن له بين الدارسين سهم في إنارة الطريق وتوضيح معالمة، بل اتجهوا غالبًا إلى الغور في الروايات والمنقولات الظنية ــ وأحيانًا الضعيفةــ ليجعلوها منطلقًا لفهمهم، وبذلك نشأت جملة من التصورات البعيدة عن الفهم القرآني. ولعل هذا التوجّه المتغافل عن القرآن هو الذي جعل التدبّر في كتاب الله العزيز يترك مكانه لتلاوة سطحية لا أثر لها في معترك الحياة، وأصبح الهدف من التلاوة محدودًا في توخّي الثواب الأخروي، بل وأكثر من ذلك أصبح القرآن الكريم يُقدم بشكل سطحي وغوغائي.
هذا الوضع الموجود يفرض على المفكرين الملتزمين الواعين في عصرنا أن يركزوا على ثلاثة محاور في دراساتهم للفكر الإسلامي ولا يجوز إغفال أي واحد منها:
الأول الخروج من الإطار الذهني المحض، والتوجه إلى المنظومة الإسلامية باعتبارها مدرسة اجتماعية يتعين فيها المسير العملي للأفراد، وخاصة في حياتهم الاجتماعية، والتأكيد في الدراسات النظرية على مشروع الإسلام لحياة البشر وعلى أهداف الإنسان والمجتمع في الحياة، والطريق الذي يحقق هذه الأهداف.
والأمر الآخر دراسة المسائل الفكرية في الإسلام بصورة مترابطة وبشكل أجزاء من منظومة واحدة، أي إن كل عنصر فيها هو جزء من هذا التركيب، وغصن من هذه الدوحة، ولَبنة في هذا البناء الشامخ، لا ينفصل بعضها عن بعض، لكي يتبلور المشروع الكامل الشامل للدين، باعتباره مدرسة فكرية كاملة خالية من أي إبهام، وذات أبعاد متناسبة مع حياة الإنسان بمختلف جوانبها.
وثمة مسألة أخرى هي أن فهم الإسلام ومبادئه لابد أن يستند إلى النصوص الأساس في الدين، لا أن ينطلق هذا الفهم من الأذواق والآراء الشخصية أو من الخلفيات الفكرية والذهنية لهذا وذاك، كي نطمئن إلى أن نتيجة دراستنا «إسلامية» حقًا، لا شيئًا آخر، ولا شك أن القرآن الكريم يحقق هذا الهدف باعتباره أكمل وثيقة وأهمها: (لَا یَأْتِیهِ الْبَاطِلُ مِن بَیْنِ یَدَیْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ)، وهو (تِبْیَانًا لِّكُلِّ شَیْءٍ)، وطبعًا في إطار تدبّر عميق أمرنا به القرآن.
وما تضمّه هذه الرسالة حصيلة جهد لتحقيق هذه الرؤى بشكل تقرير عن المشروع الإسلامي طُرح ضمن سلسلة محاضرات.
في هذه المحاضرات جرى إلقاء الضوء على أهم أسس الفكر الإسلامي في أكثر أبعادها فاعلية وحيوية من خلال آيات محكمات واضحات. ومع توضيح أسلوب التدبر في القرآن والتعمق في آياته جرى أيضًا تبيين تلك الأسس في هذه الآيات.
ولمزيد من التوضيح والتأكيد تمّ الاستناد في المواضع اللازمة إلى المأثور الصحيح عن النبي(ص) وآل بيته(ع) لبلورة مبدأ من مبادئ الإسلام برؤية عملية تبعث على الالتزام والشعور بالمسوؤلية، باعتبار أن ذلك المبدأ يمثل جانبًا من النهج الفكري والأيدلوجي للإسلام… ثم من أجل أن تبقى حصيلة المحاضرة وملخّصها في أذهان المستمعين، وأن تكون منطلق تفكير وتدبّر فقد جرى تدوين تلك الحصيلة في ورقة لتوزَّع يوميًا على الحاضرين.
هذا الذي بين يدي القارئ مجموع تلك المحاضرات، يجري نشره استجابة لطلب كثير من مستمعي تلك المحاضرات أو مَنْ سمع عنها.. على أمل أن تكون مفيدة وملبية لطلب الطالبين.
وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ.
3 آبان 1353
(25 اكتوبر 1974)