الأحد 12 رمضان المبارك 1394 هجرية – 7/7/1353 هجرية شمسية
(أَفَغَیْرَ اللهِ أَبْتَغِی حَكَمًا وَهُوَ الَّذِی أَنزَلَ إِلَیْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا وَالَّذِینَ آتَیْنَاهُمُ الْكِتَابَ یَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِّن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِینَ # وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لاَّ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِیعُ الْعَلِیمُ)
(الأنعام/ 114-115)
مرة أخرى أؤكد على أن التوحيد مسألة على غاية من الأهمية، ولا يجوز أن نمرّ عليها بعجالة، إذ إنها أساس العقيدة أولًا، وهي الأصل المهم العملي الفردي والاجتماعي ثانيًا، ولأن المسلمين الموحّدين قلّما يقتربون من المفهوم الواسع للتوحيد ثالثًا. ففي محافل التعليم يذكرون التوحيد على أن الله واحد وليس اثنين. ويبقى هذا المعنى يرافقهم طول حياتهم.
الآيات التي تلوناها في بداية الجلسة توضح ما ذكرناه أمس أكثر. نقف اليوم عند «العبادة». ما يتبادر إلى الذهن للوهلة الأولى من العبادة هو التوجه بأداء الطقوس لمعبود مقدس له قوى فوق قوى عالم الطبيعة. هذا هو المعنى السائد للعبادة عند أتباع الأديان. لكنْ للعبادة معنى ثان، وهو الطاعة المطلقة دونما قيد أو شرط. وهنا مكمن الخطر في دنيا الموحدين. عليهم أن يحذروا من هذا النوع الثاني من العبادة. عليهم أن يحذروا من أن يكونوا تابعين إلى حدّ العبادة لما سوى الله. هذا ما يقرره القرآن الكريم. روي عن عدي بن حاتم الطائي قال: أتيت رسول الله(ص).. وهو يقرأ (اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَ رُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللهِ وَ الْمَسِیحَ ابْنَ مَرْیَمَ وَ مَا أُمِرُوا إِلَّا لِیَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا) حتى فرغ منها فقلت له: إنا لسنا نعبدهم. فقال: «أليس يحرمون ما أحلّ الله فتحرمونه ويحلّون ما حرّم الله فتستحلّونه؟!».
لقد كانت ا لعبادة في ذهن عديّ هو هذا المعنى الرائج في الأذهان اليوم وهو التوجه بالدعاء مقرونًا بالتقديس القلبي، أو القلبي واللساني، أو القلبي واللساني والبدني كالصلاة. فكان من الطبيعي أن يعترض ويقول: نحن المسيحيين لسنا نعبدهم. لكن جواب الرسول(ص) كان: «أليس يحرّمون ما أحلّ الله فتحرّمونه ويحلّون ما حرّم الله فتستحلّونه»؟! هذه الإطاعة التامة المطلقة هي العبودية. وفي هذا الـمضمون وردت روايات عن أهل البيت أيضًا.
مفهوم العبادة في الثقافة القرآنية يشمل كل طاعة مطلقة للإنسان تجاه قوة تضع نفسها مكان الله سواء كانت سياسية أم دينية، أم في داخل الإنسان كالأهواء والشهوات.
وفي الرواية عن الإمام محمد بن علي الجواد(ع): «من أصغى إلى ناطق فقد عبَدَه» وهذا النص يوسّع دائرة العبادة لتشمل كل من أسلم قيادةَ سمعه إلى ناطق «فإن كان الناطق عن الله عزّوجل فقد عَبدَ الله، وإن كان الناطق ينطق عن لسان إبليس فقد عبد إبليس»، أي إن كان الناطق يتجه في حديثه نحو الله فالمستمع قد عَبَد الله، وأما إن كان ينطق باسم الشيطان، أي كان حديثه معارضًا لمنطق عبودية الله، فالإصغاء إليه عبادة للشيطان، لأن مثل هذا الناطق هو بنفسه شيطان.
«القانون» مما يكون طريقة للعبادة. إن كانت تبعيتك لقوانين النظام الاجتماعي التي قررها الله سبحانه فقد عبدت الله وإن لم تكن فقد انحرفت عن عبادته سبحانه.
انظر إلى أهمية التوحيد وأبعاده الواسعة!، لذلك فإن هدف الأنبياء جميعًا هو أن تكون أممهم موحدة. وليس التوحد سوى تحرير الإنسان من أغلال عبودية غير الله: (وَیَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَ الأَغْلَالَ الَّتِی كَانَتْ عَلَیْهِمْ).
حين يسود التوحيد بهذه النظرة في مجتمع من المجتمعات فإنه يقيم ذلك المجتمع في بُناه التحتية والفوقية وفق أصول وقيم محددة. وما أبعد هذا الفهم للتوحيد عن حصر معنى التوحيد بعبارة إن الله واحد وليس اثنين!!
قبل أن أدخل في استعراض آيات في التوحيد، أقف عند توصية ذكرتها مرارًا، وأرى ضرورة تكرارها لأهميتها ولشعوري بالمسؤولية إن لم أعد ذكرها. وهي ضرورة الرجوع إلى القرآن الكريم. ذلك البحر من أيّ النواحي أتيته. اجلسوا على مائدة القرآن. ففيه زاد التوعية والكمال كما يقول أمير المؤمنين في عبارة نهج البلاغة: «ما جالس أحد هذا القرآن إلاّ قام بزيادة أو نقصانٍ، زيادةٍ في هدى أو نقصان في عمىً».
أهمية هذه التوصية هي وجود مكائد لإبعاد الناس عن القرآن. ومن تلك هذه التي تقول لا يمكن أن يفهم القرآن إلاّ الأئمة المعصومون (عليهم السلام). هذه «كلمة حقّ يُراد بها باطل» كما قال الإمام أمير المؤمنين(ع) في حقّ خوارج نهروان. نعم إن المعصوم بما يتحلّى به من سموّ وارتفاع هو النموذج الأسمى لفهم القرآن، بل إنه قرآن حيّ يمشي على الأرض. ولكن ذلك لا يعني أنني أنا وأنت لا نفهم شيئًا من القرآن، وأن نكون بعيدين عن كتاب الله العزيز.
أصحاب هذه المقولة محرومون من فهم القرآن، فلماذا يسعون إلى إبعاد الناس عن فهم القرآن؟! لماذا تمنعون الناس أن ينهلوا من هذا النبع الفيّاض؟! اعلموا أيها الإخوة والأخوات نحن اليوم بحاجة أمسّ إلى القرآن. كما قال رسول الله(ص): «فإذا التبست عليكم الفتن كقطع الليل المظلم فعليكم بالقرآن»، عليكم بالقرآن حين تخيّم الفتن وتلقي بظلامها على المجتمع، حينما نفتقد الرؤية لمعرفة الجادّة الصحيحة.. حينما لا ترى الأعين ما تكيده لنا عصابات النهب وقطاع الطرق. في هذه الحالة نحو أحوج ما نكون إلى مراجعة القرآن. وذلك لا يتحقق إلاّ بفهمه.
في هذه الجلسة تناولت قسمين من الآيات التي ترتبط ببحثنا، وأوصيكم أن تعودوا إلى القرآن. تعلّموا لغة القرآن.. تعلموا اللغة العربية، وإن تعذّر عليكم فهم العربية فتوسلوا بترجمة معاني القرآن. كونوا بالقرآن مأنوسين ومعه أصدقاء مرافقين. وكل ساعة تمرّ دون أنس بالقرآن هي خسارة في العمر وحسرة.
وفي قراءة القرآن وفهمه يجب ملاحظة طريقة القرآن في طرح المفاهيم. فهو ليس مثل التأليفات المعهودة التي تقسم النص إلى فصول بل إنه خطاب للنفس البشرية على مرّ العصور، فمن سياق القرآن نستطيع أن نجد الموضوع الذي نبحث عنه.
القسم الأول من الآيات هي من سورة الأنعام:
(أَفَغَیْرَ اللهِ أَبْتَغِی حَكَمًا) والحَكَم هو الذي يقضي بين الناس، وقيل هو الحاكم. فهو خير الحاكمين. (أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَ الأَمْرُ) هو الخالق، وهو الآمر.
(وَهُوَ الَّذِی أَنزَلَ إِلَیْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا) أي مبينًا تبيينًا كاملًا لا خلط فيه.
(وَالَّذِینَ آتَیْنَاهُمُ الْكِتَابَ یَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِّن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِینَ) فلا مجال لمن يعلم أن هذا القرآن نازل من رب العالمين أن يكون في تزلزل وتردد. بل في عزم وثبات. (وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَ عَدْلًا لاَّ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَ هُوَ السَّمِیعُ الْعَلِیمُ) لقد أرسل رب العالمين رسله لتبلغ البشرية بالتدريج مرحلة الكمال. ثم جاء دور الرسالة الخاتمة لتفتح الطريق أمام حركة البشرية إلى اللانهاية: (إِنَّا إِلَیهِ راجِعونَ)، وبذلك تمت كلمة ربك، ولا مبدّل لهذه الكلمات ولما وضعه للبشر من مقررات.
(إِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِی الأَرْضِ یُضِلُّوكَ عَن سَبِیلِ اللهِ إِن یَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَ إِنْ هُمْ إِلَّا یَخْرُصُونَ) انظر كيف يتدرج الخطاب القرآني. فقدبدأ في الآية الأولى من المقطع الذي اخترناه بتقرير الحكومة والحَكَمية، وهي أَولى من غيرها.
ثم بعدها قرر مسألة عدم تبديل كلمات الله، فقد تمّت بالصدق والعدل ولا لأحد حقّ تبديلها. والآية التالية فيها التحذير من إطاعة أهل الأهواء والمشتهيات والظنون، فالطاعة لله وحده دون سواه.
طاعة المدارس الفكرية الأرضية فيها الضلال عن جادة الصواب، لأن أصحابها تقوم مشاريعهم على الظن: (إِنْ هُمْ إِلَّا یَظُنُّونَ) ولا تقوم إلا على أساس الأوهام: (إِنْ هُمْ إِلَّا یَخْرُصُونَ)، ولقد رأينا انهيار كثير من هذه المدارس. فقد أقامت كيانها على النظريات والفرضيات مدعية أنها القادرة على إدارة المجتمعات البشرية، ثم تبين زيفها. بينما رب العالمين يضع أمام البشرية ما يقوم على أساس العلم ليهديها سواء السبيل (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَن یَضِلُّ عَن سَبِیلِهِ وَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِینَ).
(فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَیْهِ إِن كُنتُمْ بِآیَاتِهِ مُؤْمِنِین) قد يستغرب الإنسان حين يتلو هذه الآية بعد تلك الآيات التي ركزت على موضوعات عامة ترتبط بإطاعة الله وعدم اتباع الظن وبشأن إتمام مسيرة الأنبياء. فما هذا الانتقال المفاجئ إلى الحديث عن أكل الذبيحة التي ذكر اسم الله عليها، وهي مسألة فرعية!!
في ذهني أفكار تجعل الآيات السابقة مرتبطة بهذه الآية، ولكن لا أقطع بها، فالمجال مفسوح لمزيد من التدبّر والتأمل. ما يخطر في الذهن هو:
الأول: في نظر ربّ السماوات والأر ض تتساوى الأمور الكلية العامة والجزئية وتصبح في مستوى واحد، إذ إنه أسمى من هذا العالم وهو سبحانه في أفق يفوق تصور الإنسان. فهو حين يقرر ما يرتبط بسعادة الإنسان تستوي في ذلك المقررات الكلية والجزئية، وتستوي المقررات المرتبطة بالفرد أو المجتمع.
ثانيًا: لو أمعنا النظر في مسألة الذبح وتذكية الذبيحة وذكر الله عليها، فإنه يلفت نظرنا في البداية أن المشركين كانوا ينحرون في سبيل أصنامهم ومعبوديهم، وأن الأصنام الدنيوية تصرّ على ذكر اسمهافي ديباجة أي عمل من الأعمال. وحين يقوم الإنسان بعمل من أجل هوى نفسه ولمصالحه الشخصية فإنه يتجه في عمله نحو ما خطر في ذهنه من ذلك العمل. أما حين يبدأ العمل باسم الله فإن اتجاه ذلك العمل يتناسب مع ما أمر الله. الآية تقرر أن يأكل الإنسان مما ذُكر اسم الله عليه. أي في تناول الطعام الضروري لحياة الإنسان يجب أن يكون الهدف هو «الله» لا ملء المعدة بالطعام. حين يكون الهدف هو إشباع المعدة فإنك تبتعد عن الله، أما إذا كان الهدف هو الله فإن ملء المعدة لا يكون أصلًا بل الأصل هو الله. لذلك يأبى الإنسان الموحّد أن يملأ بطنه بخلاف ما يرى الله، حتى ولو بقي جائعًا.
ابدأ كل أعمالك الخاصة والعامة باسم الله كي يتعين تجاه حركتك في هذه الأعمال.. كي تكون أعمالك في سبيل الله: (قُلْ إِنَّ صَلَاتِی وَ نُسُكِی وَ مَحْیَایَ وَ مَمَاتِی لِله رَبِّ الْعَالَمِینَ # لَا شَرِیكَ لَهُ) في كل أعمالي الصغيرة والكبيرة اتجه إلى الله وحده دون سواه.
إذن ذكر الله على الذبيحة «رمز» لتوجه الإنسان لله في احتياجاته الأساسية. إنه حكم فقهي له دلالاته على أن الإنسان في تلبية احتياجاته يجب أن يكون متجهًا في سبيل الله. وحين تزيل عنك الجوع باسم الله، وتدبّ الطاقة في وجودك بهذا الطعام، فإن استهلاك هذه الطاقة سيكون أيضًا في سبيل الله، انظر بدقة.
(وَمَا لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَیْهِ وَ قَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَیْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَیْهِ وَ إِنَّ كَثِیرًا لَّیُضِلُّونَ بِأَهوَائِهِم بِغَیْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِینَ) فقد بيّن الله سبحانه محرماته بالتفصيل في المأكولات إلاّ ما كان في حالة الاضطرار. ولا مجال في هذا التحليل والتحريم أن يتدخل من يضلّ الناس بدافع هواه. والله أعلم بالمعتدين الذين يضلون الناس بأهوائهم بغير علم.
(وَ ذَرُوا ظَاهِرَ الإِثْمِ وَ بَاطِنَهُ إِنَّ الَّذِینَ یَكْسِبُونَ الإِثْمَ سَیُجْزَوْنَ بِمَا كَانُوا یَقْتَرِفُونَ) هناك من الذنوب والآثام ماهي سيئاتها ظاهرة، مثل قتل النفس بدون حق. وهناك ما هي سيئاتها غير ظاهرة، ولا يعلم الإنسان حجم تبعاتها مثل التحدث بدون علم، والاتّباع بدون علم، والاستخفاف بذكر الله، والطاعة لغير الله.. مثل هذه الأمور يخال الإنسان أنها ليست مضرّة بالقدر الذي يجب الاحتراز منها. غير أن الآية تؤكد ضرورة اجتناب ظاهر الإثم وباطنه و (إِنَّ الَّذِینَ یَكْسِبُونَ الإِثْمَ سَیُجْزَوْنَ بِمَا كَانُوا یَقْتَرِفُونَ).
(وَإِنَّ الشَّیَاطِینَ لَیُوحُونَ إِلَى أَوْلِیَآئِهِمْ لِیُجَادِلُوكُمْ) الشياطين وأقطاب الشرّ يوحون إلى أتباعهم والسائرين في ركابهم كي يجادلوكم، ويدخلوا معكم في مناقشات خادعة. وما هو موقفكم أنتم منهم؟ وهنا بيت القصيد. (وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ) بكل صراحة ووضوح إطاعة هؤلاء هو الشرك. إطاعة الشيطان الذي هو قطب مقابل الرحمن، وإطاعة أولياء الشيطان، أي عملائه ومأجوريه وأصدقائه يؤدي إلى الوقوع في حبائل الشرك.
القسم الثاني من الآيات مقتطف من سورة الشعراء. وفيه تبيين لكثير من المفاهيم بصورة حوار على الطريقة القرآنية في تجسيم ما يريد تقديمه من معارف. وبهذه الطريقة يستهدف القرآن الكريم أن يعمّق هذه المفاهيم في المشاعر والقلوب.
في هذه الآيات تصوير لمشهد من مشاهد يوم القيامة. وأسلوبه باستخدام الفعل الماضي، وهو بمعنى المضارع المحقّق الوقوع، كمافي قوله سبحانه: (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَ انشَقَّ الْقَمَرُ) الآيات التي نحن بصددها تقول:
(وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِینَ # وَ بُرِّزَتِ الْجَحِیمُ لِلْغَاوِینَ # وَ قِیلَ لَهُمْ أَیْنَ مَا كُنتُمْ تَعْبُدُونَ # مِن دُونِ اللهِ هَلْ یَنصُرُونَكُمْ أَوْ یَنتَصِرُونَ # فَكُبْكِبُوا فِیهَا هُمْ وَ الْغَاوُونَ # وَ جُنُودُ إِبْلِیسَ أَجْمَعُونَ).
فالجنة قد أصبحت في متناول المتقين، وبُرزت جهنم للضالين المخدوعين. ثم يتجه السؤال للغاوين يقول لهم: أين هؤلاء الذين كنتم تعبدون من دون الله؟ أين تلك الأقطاب التي انشدّت قلوبكم إليهم.. انظروا إلى تعبير (تعبدون).. تُرى مَنْ هؤلاء الذين كانوا يعبدونهم؟ من هنا يتبين معنى العبادة. هل يستطيع هؤلاء المعبودون أن يساعدوكم أو يساعدوا أنفسهم؟ من الواضح أن هؤلاء يحتاجون إلى مساعدة.. أي إنهم بشر.. من نوع الإنسان، لا من نوع الحجر والخشب. هؤلاء المعبودون والضالون المخدوعون بهم، وجنود إبليس وأعوانه الذين سعوا لإضلال الناس.. هؤلاء جميعًا يلقون على وجوههم في نار جهنم.
ثم ينتقل المشهد إلى اختصام بين هؤلاء في جهنم:
(قَالُوا وَ هُمْ فِیهَا یَخْتَصِمُونَ # تَاللهِ إِن كُنَّا لَفِی ضَلَالٍ مُّبِینٍ # إِذْ نُسَوِّیكُم بِرَبِّ الْعَالَمِینَ # وَ مَا أَضَلَّنَا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ # فَمَا لَنَا مِن شَافِعِینَ # وَ لَا صَدِیقٍ حَمِیمٍ # فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِینَ # إِنَّ فِی ذَلِكَ لَآیَةً وَ مَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِینَ).
في هذا الاختصام يحاول كل فريق أن يلقي باللائمة على الفريق الآخر: المعبودون والغاوون.
والكلام هنا للغاوين المخدوعين الضالين يفهمون ويقسمون أنهم كانوا في ضلال مبين، ويأسفون على مافاتهم من صحوة ووعي ليفهموا أنهم كانوا منحرفين. يقولون لمعبوديهم: إنا كنا نجعلكم في رتبة رب العالمين. كنا نخشاكم بينما كان ينبغي أن نخشى رب العالمين. كنا نطيعكم بينما كان الواجب أن نطيع ربّ السماوات والأرض. كنا نتقرب إليكم بدل التقرب من الإله الحق. كنا نرتزق منكم بينما الأرزاق بيد فاطر السماوات والأرض.
يقولون قد أضلنا المجرمون. وقد تخلوا عنا اليوم، فليس لنا من يشفع لنا وليس لنا صديق حميم.
عندئذ يتمنون أن تكون لهم عودة إلى الحياة الدنيا ليكونوا من المؤمنين. هذا الاختصام فيه آية ودلالة على تجربة مرّ بها هؤلاء الغاوون حيث لم يكن أكثرهم مؤمنين.
في هذه الآيات حديث عن أشخاص كان الناس يعبدونهم. وبإمعان النظر نرى أن هذه العبادة ليست سوى اتباع هؤلاء وجعلهم في مرتبة الله في طلب ما كان يجب أن يطلبوه من الله، وفي طاعة تلك الأوامر التي كان ينبغي أن ينفذوها من أجل رضا الله.
والحمد لله رب العالمين.